فصل: ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

  ذكر ملك خوارزم شاه

ما كان أخذه الغورية من بلاده قد ذكرنا في سنة سبع وتسعين ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها وعودهما عنها بعد أن أقطعا البلاد ومسير شهاب الدين إلى الهند فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان ودخول شهاب الدين الهند أرسل إلى غياث الدين يعاتبه ويقول‏:‏ كنت أعتقد أن تخلف علي بعد أبي وأن تنصرني على الخطا وتردهم عن بلادي فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي وإلا استنصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك إن عجزت عن أخذ بلادي فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي وإلا فما أنا عاجز عنكم وعن أخذ بلادكم بخراسان وغيرها فغالطه غياث الدين في الجواب لتميد الأيام بالمراسلات ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر فإن غياث الدين كان عاجزًا باستيلاء النقرس عليه‏.‏

فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور ويتهدده إن لم يفعل فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه ويعده النصرة والمنع عنه‏.‏

وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة فلا قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه وملك خوارزم شاه مدينة مرو وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين فحصره وقاتله قتالًا شديدًا وطال مقامه عليها وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه وهو لا يجيب إلى ذلك انتظارًا للمدد من غياث الدين فبقي نحو شهرين فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى فأجابه إلى ذلك وحلف لهم وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه فأجابه إلى ذلك‏.‏

وسار إلى هراة ومنها إلى إقطاعه ولم يمض إلى غياث الدين تجنيًا عليه لتأخر أمداده ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين ابن خرميل وهو من أعيان أمرائهم زيادة على غيره وبالغ في إكرامه فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين‏.‏

ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس وبها الأمير زنكي فحصره أربعين يومًا وجرى بين الفريقين حروب كثيرة فضاقت الميرة على أهل البلد لا سيما الحطب فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه فلم يجبه إلى ذلك واحتج بقرب نسبه من غياث الدين فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره فخرج زنكي فأخذ من الغلات وغيرها التي في المعسكر ما أراد لا سيما من الحطب وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمر وكتب إلى خوارزم شاه‏:‏ العود أحمد فندم حيث لم ينفعه الندم ورحل عن البلد وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه‏.‏

فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان وهو من أمراء الغورية وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة وسمع الخوارزميون الخبر ففارقوا سرخس وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ وأخذ خراجها وما يجاورها فسير إليهم خوارزم شاه عسكرًا مع خاله فلقيهم محمد بم جربك وقاتلهم وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله وألقى علمهم وكسر كوساتهم فانقطع صوتها عن العسكر ولم يروا أعلامهم فانزموا وركبهم الغورية قتلًا وأسرًا نحو فرسخين فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسع مائة فارس وغنم جميع معسكرهم فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم وأرسل إلى غياث الدين في الصلح

فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني ومرغن من قرى الغور فقبض عليه خوارزم شاه‏.‏

  ذكر حصر خوارزم شاه هراة وعوده عنها

لما أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح وأجابه عن رسالته مع الحسين المرغني مغالطًا قبض خوارزم شاه على الحسين وسار إلى هراة ليحاصرها فكتب الحسين إلى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة يخبره بذلك فاستعد للحصار‏.‏

وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة أن رجلين أخوين ممن كان يخدم محمدًا سلطان شاه اتصلا بغياث الدين بعد وفاة سلطان شاه فأكرمهما غياث الدين وأحسن إليهما يقال لأحدهما الأمير الحاجي فكاتبا خوارزم شاه وأطمعاه في البلد وضمنا له تسليمه إليه فسار لذلك ونازل المدينة وحصرها فسلم الأمر عمر المرغني أمير البلد مفتاح الأبواب إليهما وجعلهما على القتال ثقة منه بهما وظنا منه أنهما عدوًا خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني المأسور عند خوارزم شاه بحال الرجلين وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل فلم يصدقه وأتاه بخط الأمير الحاجي فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة فأخذهما واعتقلهما وأخذ أصحابهما‏.‏

ثم إن ألب غازي وهو ابن أخت غياث الدين جاء في عسكر من الغورية فنزل على خمسة فراسخ من هراة فكان يمنع الميرة عن عسكر خوارزم شاه ثم إن خوارزم شاه سير عسكرًا إلى أعمال الطالقان للغارة عليها فلقيهم الحسن بن خرميل فقاتلهم فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد‏.‏

وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره فنزل برباط رزين بالقرب من هراة ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لان أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يومًا وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزام أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين وكذلك أيضًا قرب ألب غازي وسمع أيضًا أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد فأرسل إلى أمير هراة عمر المرغني في الصلح فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد‏.‏

وأما شهاب الدين فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها فسار إلى خراسان فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو عازمًا على حرب خوارزم شاه وكان نازلًا هناك فالتقت أوائل عسكريهما واقتتلوا فقتل من الفريقين خلق كثير ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم وقطع القناطر وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لأنه اتهمه بالمخامرة عليه وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم ليحصرها فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فقصد هراة وترك ذلك العزم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة درس مجد الدين أبو علي يحيى بن الربيع الفقيه الشافعي بالنظامية ببغداد في ربيع الأول‏.‏

وفيها توفيت بنفشة جارية الخليفة المستضيء بأمر الله وكان كثير الميل إليها والمحبة لها وكانت كثير المعروف والإحسان والصدقة‏.‏

وفيها أيضًا توفي الخطيب عبد الملك بن زيد الدولعي خطيب دمشق وكان فقيهًا شافعيًا هو من الدولعية قرية من أعمال الموصل‏.‏

  ذكر حصر عسكر العادل ماردين وصلحه مع صاحبها

في هذه السنة في المحرم سير الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب دمشق ومصر عسكرًا مع ولده الملك الأشرف موسى إلى ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وانضاف إليه عسكر الموصل وسنجار وغيرهما ونزلوا بخرزم تحت ماردين ونزل عسكر من قلعة البارعية وهي لصاحب ماردين يقطعون الميرة عن العسكر العادلي فسار إليهم طائفة من العسكر العادلي فاقتتلوا فانهزم عسكر البارعية‏.‏

وثار التركمان وقطعوا الطريق في تلك الناحية وأكثروا الفساد فتعذر سلوك الطريق إلى لجماعة من أرباب السلاح فسار طائفة من العسكر العادلي إلى رأس عين لإصلاح الطرق وكف عادية الفساد وأقام ولد العادل ولم يحصل له غرض فدخل الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل إلى عمه العادل ي ذلك فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل هل صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطًا من أميري ويخطب له ببلاده ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه وأخذ الظاهر عشرين ألف دينار من النقد المذكور وقرية القرادي من أعمال شيختان فرحل ولد العادل عن ماردين‏.‏

  ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور وشيء من سيرته

في هذه السنة في جمادى الأولى توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها وأخفيت وفاته وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازمًا على قصد خوارزم شاه فأتاه الخبر بوفاة أخيه فسار إلى هراة فلما وصل إليها جلس للعزاء بأخيه في رجب وأظهرت وفاته حينئذ‏.‏

وخلف غياث الدين من الولد ابنًا اسمه محمود لقب بعد موت أبيه غياث الدين وسنورد من أخباره كثيرًا‏.‏

ولا سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية فخرج إليهم محمد ليلًا وبيتهم فمل ينج منهم إلا القليل وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى هراة فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل وجهز خوارزم شاه جيشًا وسيرهم مع بوفور التركي إلى قتال محمد بن جربك فسمع بهم فخرج إليهم ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو فاقتتلوا قتالًا شديدًا قتل بين الفريقين خلق كثير وانهزم الغورية ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يومًا فضعف عن الحفظ فأرسل في طلب الأمان فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه فخرج إليهم فقتلوه وأخذوا كل ما معه‏.‏

وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه وتردد الرسل بينه وبين خوارزم شاه فلم يستقر الصلح وأراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي وفك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري على مدينة فيروزكوه وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالملكة وأتاه محمود ابن أخيه غياث الدين فولاه مدينة بست واسفرار وتلك الناحية وجعله بمعزل من الملك جميعه ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه ولا على غيره من أهله فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية فهويها وتزوجها فلا مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضربًا مبرحًا وضرب ولدها غياث الدين وزوج أختها وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند فكانوا في أقبح صورة وكانت قد بنت مدرسة ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها فهدمها ونبش قبور الموتى ورمى بعظامهم منها‏.‏

وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه فإنه كان مظفرًا منصورًا في حروبه لم تنهزم له راية قط وكان قليل المباشرة للحروب وإنما كان له دهاء ومكر وكان جوادًا حسن الاعتقاد كثير الصدقات والوقوف بخراسان بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي وبنى الخانكاهات في الطرق وأسقط المكوس ولم يتعرض على مال أحد من الناس ومن مات ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار فإن لم يجد أحدًا يسلمه إلى القاضي ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع‏.‏

وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل يخلع عليهم ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته ويفرق الأموال في الفقراء وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة وكان رحمه الله ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها ولم يظهر منه تعصب على مذهب ويقول‏:‏ التعصب في المذاهب من الملك قبيح إلا أنه كان شافعي المذهب فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم ولا أعطاهم ما ليس لهم‏.‏

  ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من الأفضل

في هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل وكانت في جملة ما أخذ من العادل ملا صالحه سنة سبع وتسعين فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وحملين ورأس عين وبقي بيد سمساط وقلعة نجم فأرسل الظاهر إليه يطلب منه قلعة نجم وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه فلم يعطه فتهدده بأن يكون إلبًا عليه ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان وطلب منه أن يعوضه قرى أو مالًا فلم يفعل وكان هذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها وكثرة بلاده وعدمها لأخيه‏.‏

وأما العادل فإنه لما أخذ سروج ورأس عين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في رجهما فلم يشفعها وردها خائبة ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين إليه يسألانه أن يعود فلم يشفعهما فجرى لأولاده هذا وردت زوجته خائبة كما فعل‏.‏

ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب ملطية وقونية وما بينهما من البلاد يبذل له الطاعة وأن يكون في خدمته ويخطب له ببلده ويضرب السكة باسمه فأجابه ركن الدين إلى ذلك وأرسل له خلعة فلبسها الأفضل وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته‏.‏

  ذكر ملك الكرج مدينة دوين

في هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوي من أذربيجان ونهبوها واستباحوها وأكثروا القتل في أهلها وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان وكان على عادته مشغولًا بالشرب ليلًا نهارًا لا يفيق ولا يصحو ولا ينظر في أمر مملكته ورعيته وجنده قد ألقى الجميع عن قلبه وسلك طريق من ليس له علاقة وكان أهل تلك البلاد قد أكثرت الاستغاثة به وإعلامه بقصد الكرج بلادهم بالغارة مرة بعد أخرى فكأنهم ينادون صخرة صماء فلما حصر الكرج هذه السنة مدينة دوين سار منهم جماعة يستغيثون فلم يغثهم وخوفه جماعة من أمرائه عاقبة إهماله وتوانيه وإصراره على ما هو فيه فلم يصغ إليهم فلما طال الأمر على أهلها ضعفوا وعجزوا وأخذهم الكرج عنوة بالسيف وفعلوا ما ذكرنا‏.‏

ثم إن الكرج بعد أن استقر أمرهم بها أحسنوا إلى من بقي من أهلها فالله تعالى ينظر إلى المسلمين ويسهل لثغورهم من يحفظها ويحميها فإنها مستباحة لا سيما هذه الناحية فإنا لله وإنا إليه راجعون فلقد بلغنا من فعل الكرج بأهل دوين من القتل والسبي والأمر ما تقشعر منه الجلود‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة أحضر الملك العادل محمدًا ولد العزيز صاحب مصر إلى الرها وسبب ذلك أنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين كما ذكرناه خاف شيعة أبيه أن يجتمعوا عليه ويصير له معهم فتنة فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق ثم نقله هذه السنة إلى الرها فأقام بها ومعه جميع إخوته وأخواته ووالدته ومن يخصه‏.‏

وفيها في رجب توفي الشيخ وجيه الدين محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي وهذا الذي كان السبب في أن صار وحيد الدين شافعيًا‏.‏

وفي ربيع الأول منها توفي أبو الفتوح عبيد الله بن أبي المعمر الفقيه الشافعي المعروف بالمستملي ببغداد وله خط حسن‏.‏

وفي ربيع الآخر توفيت زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله وأخرجت جنازتها ظاهرة وصلى الخلق الكثير عليها ودفنت في التربة التي بنتها لنفسها وكانت كثيرة المعروف‏.‏

  ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانية

في هذه السنة أول رجب وصل خوارزم شاه محمد إلى مدينة هراة فحصرها وبها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين الغوري ملك غزنة بعد مراسلات جرت بينه وبين شهاب الدين في الصلح فلم يتم‏.‏

وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوور عازمًا على غزو الهند فأقام خوارزم شاه على حصار هراة إلى سلخ شعبان‏.‏

وكان القتال دائمًا والقتل بين الفريقين كثيرًا وممن قتل رئيس خراسان وكان كير القدر يقيم بمشهد طوس وكان الحسين بن خرميل بكرزيان وهي إقطاعة فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له‏:‏ أرسل إلي عسكرًا لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزيان فخرج عليه هو والحسين بن محمد المرغني فقتلوهم إلا القليل فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه فسقط في يده وندم على إنفاذ العسكر وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه فلم يجبه إلى ذلك فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد فأجاب إلى ما طلب منه واستحلفه على الصلح وأهدى له هدية جليلة وخرج من البلد ليخدمه فسقط إلى الأرض ميتًا ولم يشعر أحد بذلك وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها‏.‏

  ذكر عود شهاب الدين من الهند وحصره خوارزم وانهزامه من الخطا

في هذه السنة في رمضان عاد شهاب الدين الغوري إلى خراسان من قصد الهند وسبب ذلك أنه بلغه حصر خوارزم شاه هراة وموت ألب غازي نائبه بها فعاد حنقًا على خوارزم شاه فلما بلغ ميمند عدل على طريق أخرى قاصدًا إلى خوارزم فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له‏:‏ ارجع إلي لأحاربك وإلا سرت إلى هراة ومنها إلى غزنة‏.‏

وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو فأقام بظاهرها فأعاد إليه شهاب الدين جوابه‏:‏ لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة لكن خوارزم تجمعنا ففرق خوارزم شاه عساكره وأحرق ما جمعه من العلف ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم فسبقه إليها فقطع الطريق وأجرى المياه فيها فتعذر على شهاب الدين سلوكها وأقام أربعين يومًا يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم والتقى العسكران بسوقرا ومعناه الماء الأسود فجرى بينهم قتال شديد كثير القتلى فيه بين الفريقين وممن قتل من الغورية الحسني المرغني وغيره وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا‏.‏

وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر فاستعدوا وساروا إلى بلاد الغورية فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد من خوارزم فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة فقتل فيهم وأسر كثيرًا فلما كان اليوم الثاني دهمه من الخطا ما لا طاقة له بهمم فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة وكان أول من انهزم الحسين بن خرميل صاب طالقان وتبعه الناس وبقي شهاب الدين في نفر يسير وقتل بيده أربعة أفيال لأنها أعيت وأخذ الكفار فيلين ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه وحصره الكفار ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلًا آخر ففعل وخلص‏.‏

ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم وكثرت الأراجيف بذلك ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر وقد قتل أكثر عسكره ونهبت خزائنه جميعها فلم يبق منها شيء فأخرج له الحسين بن خرميل صاحب الطالقان خيامًا وجميع ما يحتاج إليه وسار إلى غزنة وأخذ معه الحسين بن خرميل لأنه قيل له عنه إنه شديد الخوف لانهزامه وإنه قال‏:‏ إذا سار السلطان هربت إلى خوارزم شاه فأخذه معه وجعله أمير حاجب‏.‏

ولما وقع الخبر بقتله جمع تاج الدين الدز وهو مملوك اشتراه شهاب الدين أصحابه وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها فمنعه مستحفظها فعاد إلى داره فأقام بها وأفسد الخلج وسائر المفسدين في البلاد وقطعوا الطرق وقتلوا كثيرًا فلما عاد شهاب الدين إلى غزنة بلغه ما فعله الدز فأراد قتله فشفع فيه سائر المماليك فأطلقه ثم اعتذر وسار شهاب الدين في البلاد فقتل من المفسدين من تلك الأمم نفرًا كثيرًا‏.‏

وكان له أيضًا مملوك آخر اسمه أيبك بال تر فسلم من المعركة ولحق بالهند ودخل المولتان وقتل نائب السلطان بها وملك البلد وأخذ الأموال السلطانية وأساء السيرة في الرعية وأخذ أموالهم وقال‏:‏ قتل السلطان وأنا السلطان وكان يحمله على ذلك ويحسنه له إنسان اسمه عمر ابن يزان وكان زنديقًا ففعل ما أمره وجمع المفسدين وأخذ الأموال فأخاف الطريق فبلغ خبره إلى شهاب الدين فسار إلى الهند وأرسل إليه عسكرًا فأخذوه ومعه عمر بن يزان فقتلهما أقبح قتلة وقتل من وافقهما في جمادى الآخرة من سنة إحدى وستمائة ولما رآهم قتلى قرأ‏:‏ ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وأمر شاب الدين فنودي في جميع بلاده بالتجهز لقتال الخطا وعزوهم والأخذ بثأرهم‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب انهزامه أنه لما عاد إلى الخطا من خوارزم فرق عسكره في المفازة التي في طريقه لقلة الماء وكان الخطا قد نزلوا على طريق المفازة فكلما خرج من أصحابه طائفة فتكوا فيهم بالقتل والأسر ومن سلم من عسكره انهزم نحو البلاد ولم يرجع إليه أحد يعلم الحال وجاء شهاب الدين في ساقة العسكر في عشرين ألف فارس ولم يعلم الحال فلما خرج من البرية لقيه الخطا مستريحين وهو ومن معه قد تعبوا وأعيوا وكان الخطا أضعاف أصحابه فقاتلهم عامة نهاره وحمى نفسه منهم وحصروه في أندخوي فجرى بينهم في عدة أيام أربعة عشر مصافًا منها مصاف واحد كان من العصر إلى الغد بكرة ثم إنه بعد ذلك سير طائفة من عسكره ليلًا سرًا وأمرهم أن يرجعوا إليه بكرة كأنهم قد أتوه مددًا من بلاده فلما فعلوا ذلك خافه الخطا وقال لهم صاحب سمرقند وكان مسلمًا وهو في طاعة الخطا وقد خاف على الإسلام والمسلمين إن هم ظفروا بشهاب الدين فقال لهم‏:‏ إن هذا الرجل لا تجدونه قط أضعف منه لما خرج من المفازة ومع ضعفه وتعبه وقلة من معه لم نظفر به والأمداد أتته وكأنكم بعساكره وقد أقبلت من كل طريق وحينئذ نطلب الخلاص منه فلا نقدر عليه والرأي لنا الصلح معه فأجابوا إلى ذلك فأرسلوا إليه في الصلح‏.‏

وكان صاحب سمرقند قد أرسل إليه وعرفه الحال سرًا وأمره بإظهار الامتناع من الصلح أولًا والإجابة إليه أخيرًا فلما أتته الرسل امتنع وأظهر القوة بانتظار الأمداد وطال الكلام فاصطلحوا على أن الخطا لا يعبرون النهر إلى بلاده ولا هو يعبره إلى بلادهم ورجعوا عنه وخلص هو وعاد إلى بلاده والباقي نحو ما تقدم‏.‏

  ذكر قتل طائفة من الإسماعيلية بخراسان

في هذه السنة وصل رسول إلى شهاب الدين الغوري من عند مقدم الإسماعيلية بخراسان برسالة أنكرها فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسير في عساكر إليهم ومحاصرة بلادهم فسار في عساكر كثيرة إلى قهستان وسمع به صاحب زوزن فقصده وصار معه وفارق خدمة خوارزم شاه ونزل علاء الدين على مدينة قاين وهي للإسماعيلية وحصرها وضيق على أهلها ووصل خبر قتل شهاب الدين على ما نذكره فصالح أهلها على ستين ألف دينار ركنية ورحل عنهم وقصد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتلة وسبى الذرية ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه‏.‏